يسري حسان يكتب: عندما لا يفهم الوزير طبيعة وزارته!

وليس معنى أنني مصطف، في هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن الغالي، وأدعو إلى تسوية الصفوف، أن أخرس خالص ولا أوجه أي نقد لمؤسسات الدولة البائسة، بل بالعكس إن توجيه النقد، بغرض الإصلاح، يكمل موضوع الاصطفاف، ويجعله أكثر قوة وحيوية، وكذلك أكثر بريقا ولمعانا.
ليس بيني وبين هذا الوزير أي” حزازيات” وصحتها حساسيات، لكننا ننطقها هكذا في شبرا مصر، بل إنني أراه رجلا نشيطا ولديه فرط حركة، وربما تكون نيته طيبة، ورغبته صادقة في تحقيق النجاح في مهمته المستحيلة، لكن ذلك كله يصب في الفراغ للأسف.
لماذا هو في الفراغ؟ لأن الوزير المحترم، مثل كثيرين غيره، ينتمي إلى مدرسة اللقطة، المهم الصورة تطلع حلوة، ولذلك فنحن بسم الله ماشاء الله أعظم دولة في الأغاني والأناشيد المدرسية، والإعلام البائس.
وبمناسبة الأناشيد المدرسية، لأن الكلام بيجيب بعضه، أريد أن أحدثك أخي المواطن الفاضل، أو حتى الفاضي، عن التعليم في بلادنا الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم، وعن بعض تصريحات الوزير المحترم محمد عبداللطيف التي ترفع الضغط، وتسبب حصوات المرارة، والالتهاب الرئوي، وأحيانا تؤدي إلى الشلل الرعاش.
مبدئيا أظن أن الوزير يفهم طبيعة وزارته على نحو خاطئ، هو يفهم الاستثمار في التعليم باعتباره شيئا يجلب أموالا للدولة، أو على الأقل يوفر عليها أموالا، كل وزير الآن يسعى جاهدا إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب المالية، باعتبار أن المواطن مجرد زبون عند الدولة، لا بأس في بعض الوزارات، أما الوزارات الخدمية، كالتعليم تحديدا، فإن الاستثمار فيها يعني أن تنفق عليها الدولة، وبسخاء شديد، لا أن تأخذ منها، فأنت إذا أردت أن تكون دولة صناعية أو زراعية أو سياحية، أو أي شيء يجعلك تتقدم اقتصاديا، فلابد أن تهتم بالتعليم أولا وتجعله مشروعك القومي الأول والأكبر والأهم، وكلما كان لديك تعليم جيد وعصري كلما كانت فرصك في النهوض والتقدم أكثر وأكثر. اذكر لي دولة واحدة تقدمت ونهضت دون أن تجعل التعليم مشروعها القومي الأول، التعليم الجيد أساس كل تقدم، يعني حضرتك تنفق على التعليم وتجعله أولوية، يبقى تضمن إن كل مشروعاتك القادمة والقائمة ستكون ناجحة ومثمرة، وهذا ما يعنيه الاستثمار في التعليم.
أما الوزير الذي يفهم الاستثمار على نحو خاطئ، فقد اخترع مثلا نظام البكالوريا ليتحصل على أموال أولياء الأمور الذين يريدون تحسينا لمجاميع أبنائهم، وهو في نفس الوقت لا يجرؤ على طلب زيادة ميزانية وزارته ليعطي المدرسين حقوقهم المهضومة، أو ليجعل المدارس أكثر آدمية، أو ليتم تعيين الثلاثين ألفا الذين تمت نقاوتهم على الفرازة واستبعدوا السمينة والقصيرة والأقرع وصاحب البشرة الخمرية، والذي يمشي مشية البطة، وفي النهاية لم يتم تعيين أحد لأن الوزير لا يجرؤ على طلب زيادة ميزانية التعليم.
وعلى الرغم من استبعاد كل من هو أو كل من هي، ليس ممشوق القوام ولاعريض المنكبين، أو أزرق العينين، فقد تمخض تفكيرهم التعبان، بدلا من تعيين الثلاثين ألف معلم، عن الاستعانة بمدرسي الحصة، ومنهم من جاوز السبعين، ومنهم من لا يمشي إلا بالمحاليل، ومنهم من لا يستطيع الذهاب إلى المدرسة دون أن يحمله أحفاده أو أحفاد أحفاده، فوق أكتافهم، وحتى هؤلاء لم يعمروا طويلا في التدريس بالحصة، ليس لأن الله توفاهم للمرة الثالثة، ولكن لأنهم اكتشفوا عدم وجود ميزانية مخصصة لحصصهم التي تبلغ مكافأة الواحدة منها خمسين جنيها قبل الخصم والذي منه.
الوزارة كانت متعاقدة أصلا مع بعض المدرسين، وقامت بإلغاء التعاقدات، ولجأت إلى حكاية مدرس الحصة التي لم تنجح، خاصة في المرحلة الثانوية التي أصبح معظم فصولها بلا مدرسين، وحتى يظهروا أنه لا يوجد عجز يتم ضم الفصول على بعضها، ومنح بعض المدرسين حصصا فوق أنصبتهم في مقابل مادي لم يحصلوا عليه، فتوقفوا عن اللعب.
الوزير يصرح بأنه سد العجز في المدرسين، وهذا كلام غير صحيح، لم يحدث إلا على الورق فقط، كل موجه يلفق أوراقه ويقول تمام ويرفعها إلى مدير إدارته الذي يرفعها إلى وكيل وزارته حتى تصل إلى الوزير فيطمئن قلبه، مع إنه لا يجب أن يطمئن أبدا، العجز موجود وصارخ، ولا رغبة في سده، لأن سده يتطلب ميزانيات والوزير لا يجرؤ على طلبها.
الغريب في الأمر أن الوزير قال أمام اجتماع لليونسكو إن مصر تمتلك خبرات راسخة في تطوير النظم التعليمية مما يجعلها نموذجًا يحتذى به في المنطقة، وأنا أسأله أي نموذج يارجل؟ المدارس حالها في غاية البؤس، والتقيمات التي اخترعتها يشتريها الأولاد من المكتبات، وأولياء الأمور يدفعون دم قلبهم فيها، فضلا عن الدروس الخصوصية، فلا تعليم في المدارس ولا يحزنون، وبعض المدرسين، ولأنهم يتقاضون ملاليم، يستغلون حكاية أعمال السنة في ابتزاز التلاميذ وإجبارهم على الدروس الخصوصية، حتى عندما أصبح وضع الامتحانات مهمة موجهي المادة، فإن من يقوم بالتصحيح هم المدرسون أنفسهم، ويبقى زيتنا في دقيقنا، معانا أعمال السنة والتصحيح كمان، وحتى لو لم نقم بالتصحيح فأعمال السنة فيها الخير والبركة.
ماذا لو استغل الوزير فرط حركته وقام بزيارات مفاجئة فعلا للمدارس، وليست معروفة ومعد لها سلفا، وبعيدا عن الكاميرات والتشريفات، أكيد سيجد ما لايسره.
بؤس الدولة من بؤس تعليمها، ونظام التعليم في مصر شديد البؤس والسوء، ولا يفرز سوى أميين، إلا من رحم ربي، نظام التعليم في مصر يحتاج إلى مجلدات لذكر مساوئه، نظام التعليم في مصر يجب نسفه فورا، وإعطاء ملفه لخبراء لهم مكانتهم وإنجازاتهم المعروفة، هذا إذا كنا نريدها دولة أد الدنيا بحق وحقيق، لا في الأغاني والأناشيد المدرسية البائسة، وكذلك الإعلام، الأكثر بؤسا هو الآخر.